أصواتٌ من غزّة

ربى، عاملة في المجال الإنساني

منذ منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر، بدأت ربى بتدوين يومياتها خلال الحرب عبر إرسال مسجات واتساب صوتية إلى عدد من أصدقائها القلقين عليها. قرر أصدقاء ربى طباعة رسائلها ونشرها عبر صفحة مدونة آملين أن يقرأها جمهور أوسع، ولتحقيق غايتهم تواصلوا هم وربى معنا ليطلبوا من إنسانيات أن تنشر مقتطفات من يومياتها بإضافتها إلى أصوات من غزة مع رابط مدونتها. اعتباراً من 21 كانون الأول/ ديسمبر، تواصل ربى تدوين يومياتها على موقعها itsrubaingaza.blogspot.com.

الجمعة، ١٧ تشرين الثاني/نوفمبر 2023

(من رفح)

أنا موجودة في عمارة ثلاث طوابق. أصحاب العمارة هم أربعة أخوة وأهلهم. العمارة فيها ثلاث عائلات اللي هربوا من بيوتهم... كلنا حوالي ٦٠ شخص. 

في١٠ أشخاص في الشقة اللي أنا فيها. الشقة فيها حمامين. كل النساء بناموا بغرفة واحدة مع بعض... اليوم صحيت بنص الليل عشان أروح على الحمام، بس كنت مش متأكدة إذا في مية [مياه] كفاية عشان أدخل على الحمام. اضطريت أروح على الحمام الثاني وأجيب مية للحمام اللي جنب غرفة نوم النساء. كان في مية بتكفي بس أني أنظف حالي وأغسل ايدي. ما كان في مية لشطف المرحاض. خمس أشخاص استخدموا الحمام قبلي وكمان ما كان عندهم مي لشطف المرحاض.

لازم أنتظر ٥-٦ ساعات لنجيب مية ونعرف نشطف المرحاض...

االأحد، ١٩ تشرين الثاني/نوفمبر 2023

من بداية الحرب على غزة واحنا ما بنقدر ننام والأبواب والشبابيك مسكرة، لأنه ببساطة، إذا سكرناهم، ضغط الهوا من القصف رح يكسّر القزاز ويخلع الأبواب. فاحنا بننام وبنخلي كل شي مفتوح. وبما أنه احنا بفصل الشتاء، بنثلّج من البرد، خصوصاً بالليل. 

الليلة الماضية صحيت ٤ أو ٥ مرات – كل مرة على صوت قصف جوي، ومرات قصف من البحر. شعور مرعب كل مرة بصحى. قلبي بصير يدق بسرعة كثير، وبحس أنه كل أعضائي بتهز وبتتحرك جوا جسمي بسبب الضغط الجوي العالي اللي بصير بعد القصف. 

ومع أنه احنا بفصل الشتاء، إلا أنه ما معي ملابس شتوية. عنجد ما كنت متوقعة رح تستمر الحرب لهلأ. هلأ لازم أروح أشتري ملابس شتوية. بس بما أنه ما عنا مي كفاية، فما رح أقدر أتحمم قبل ما ألبس الملابس الجديدة، على فرض أنه رح أقدر أشتري ملابس اليوم أصلاً. 

لما بنصحى الصبح، كلنا عنا طقوسنا. أنا بصلي وبحكي مع الله وبعمل كل الأشياء اللي المفروض نعملها كمسلمين. وبنطق الشهادة أكثر من مرة باليوم. ما بعرف كيف وصلنا لهالحالة أنا بتشهَّد ٥ مرات بالليلة الواحدة! أنا تشهَّدت ٥ مرات الليلة الماضية، لأنه ٥ مرات أفكر بكل صدق أني رح أموت. هاي مش أول مرة بتصير، وبعرف أنها مش آخر مرة حتصير. 

وبفس الغرفة اللي بتنام فيها كل النساء، معنا طفل. أول ما نسمع قصف أو غارة جوية، جدة ابن اخي بترمي حالها فوقه لتخبيه وتحميه بجسمها تحسباً. بدها الطفل يعيش حتى لو على حساب حياتها. طبعاً لما بيصحى وبصير بده يعيط، احنا فوراً بنصير نتصرف كأننا سعداء، ونضحك ونبتسم ونرقص عشان -لعل وعسى -ما يحس بأي من التوتر اللي عايشينه. 

احنا وكثير ناس مثلنا حسينا بشعور قوي واحنا في رفح أنه ما بدنا نشتري أشياء – ما بدنا نشتري ملابس شتوية، ما بدنا نستأجر بيت، ما بدنا نجيب أشياء زيادة عن الأشياء اللي جبناها معنا من بيوتنا، لأنه ما بدنا هاي الحالة تتحول لشيء شبيه باللي صار بال ١٩٤٨. ما راح نرضى أنه تصير هاي حالتنا الدائمة. ما كان بدي ولسا ما بدي تصير رفح هي بيتي، لأنه أنا بعيش في مدينة غزة وبيتي في مدينة غزة. وكثير ناس حاسين هيك. واحد من أصحابنا عايش بدكان هو وزوجته وأطفالهم، ومش راضي يصلّح باب المحل، لأنه جده، من أول الأشياء اللي عملها لما صار لاجئ في غزة، صلَّح باب المكان اللي كان قاعد فيه. صاحبنا ما بده يحس أنه التاريخ بعيد نفسه.

الثلاثاء، ٢١ تشرين الثاني/نوفمبر 2023

... من بداية الحرب، صرنا سامعين أنواع مختلفة من القنابل والانفجارات مرة ومرتين ٣ و٤ و٥ و٦ و١٠ و١١، و١٠٠ مرة باليوم. في بعض الأيام بنسمع بس نوع أو نوعين من الانفجارات. بس هدول بكون إلهم مفعول أقوى بكثير من الأنواع الثانية اللي بنسمعها في أغلب الأحيان. 

على الرغم من ذلك، الناس ما زالت مستمرة بحياتها اليومية في غزة. بيصحوا على صوت الانفجارات، بس كمان بيصحوا وببالهم الأفكار اللي بتراود أي شخص طبيعي – أفكار مثل: "كيف رح ندبر حليب للأطفال؟ كيف رح نطبخ للأولاد؟ كيف رح نضمن أنه نوفر لهم وجبة باليوم على الأقل؟" إذا نجحوا أنه يوفروا الحاجات الأساسية، بيشعروا بالراحة. 

هذا اللي رح أحكي عنه برسالتي اليوم. 

واحدة من الحاجات الأساسية اللي انا بدي إياها بس مش قادرة ألاقيها بالسوق هي الباور بانك [power bank] حتى أقدر أشحن تليفوني قدر الإمكان. والقهوة كمان. ممكن تضحكوا، بس هون القهوة مش رفاهية، هي حاجة أساسية، وغير متوفرة بالسوق. السلع الأساسية مثل الزيت للطبخ، والبقوليات، والمعلبات بالعادة متوفرة. بس الإشكالية الأكبر هي انه فش خبز. مثل ما قلتلكم سابقاً، عشان نجيب خبز، كثير ناس بتروح توقف بالدور على المخبز من الساعة ٤:٣٠ الفجر، وبحاولوا يجيبوا ١٠ أرغفة كل مرة لأنه عيلهم كبيرة. اليوم بس مسموح ٥ أرغفة للعائلة الواحدة، وهذا غير كافي. 

وكمان اليوم كثير صعب علي أني أوفر أكل لبسسي [قططي] لأنه أصلاً ما في أكل كفاية للبشر في السوق، فكيف رح يقدر الشخص يوفر أكل حيوانات- هاي كمان مهمة صعبة. 

اليوم ركبت في تاكسي مع كمان شخصين- السائق وكمان شخص جالس بحدي. ريحة البنزين كثير سيئة لأنه الناس بتستخدم زيت قلي للسيارات. احنا فعلاً عايشين بمكان موبوء- اليوم كان أول مرة بحس حالي مخنوقة بالسوق. وما كان السبب أنه في كثير ناس. السبب كان ريحة الحريق. زيت القلي يستخدم كمان لمولدات الكهربا في المستشفيات.

الأربعاء، ٢٢ تشرين الثاني/نوفمبر 2023

آخر يومين في رفح طيارات الدرون، اللي بنسميها في غزة الزنانة، كانت فوق روسنا طول الوقت. الصوت كثير قريب لدرجة بنحسها رح تهدّي بحضننا. امبارح أخيراً بلشت أحس شوي أحسن عن الأخبار أنه ممكن يكون في هدنة قريباً. بلشت أفكر في كل زاوية في بيتي وقديش ممكن تكون تضررت وشو بقدر أعمل. الليلة الماضية قبل ما انام، صار عندي براسي خطة كاملة شو بدي أعمل. بس لازم أستنى كم ساعة لحد ما السواقيين اللي على الخط يحكولنا أي طرق بنقدر نمشيها. 

أخوي رح يروح على بيته المدمر عشان يجيب قد ما بيقدر من ممتلكاته الثمينة. أنا، أكثر ممتلكات لا تعوض بثمن بالنسبة إلي هي ٣ ألبومات صور إلي ولأمي الله يرحمها. 

صحيت بطاقة إيجابية... خبروني أنه ما بنقدر نرجع على بيتنا لأنه ما حطوها في بنود اتفاق الهدنة. ما انتبهت على حالي كيف صارت دموعي تنزل. صرت أفكر بكيف أجدادي تركوا بيتهم بال١٩٤٨. وأعتذر بقلبي لكل واحد منهم، لأني كنت أفكر أنه جيلي أشطر منهم...

على مدار هالحرب مش بس بكيت، بس كمان ما قدرت أنام... إيمان كانت واحدة من أعز زملائي بالشغل وصديقاتي المقربات بعيداً عن الشغل. كانت ألطف وأكرم أصدقائي وأكثرهم انفتاحاً. أخذنا أقل من أسبوع من وقت ما تعرفنا قبل سنتين لنصير صديقات. كنا نروح نتسوق مع بعض، ونحتفل بالمناسبات مع بعض، وكنا نشتري أشياء لبيتها وأولادها ولبيتي كمان. معظم الأيام، كنت أنا أوصلها على البيت بعد الشغل وكنا نغني في طريقنا. هي الإنسان الوحيد اللي أنا تداينت منها وداينتها مصاري. كنا كمان مشاركات في مجموعة على تطبيق واتساب لقراءة القرآن. إيمان كانت مهندسة معمارية ومعها شهادة ماجستير. كانت حدا متفوق في كل نواحي الحياة. كان عندها طفلين أعمارهم ١٠ و ١١... وحكتلي أنها كانت مخططة تحمل لأنها بدها تجيب طفل ثالث. 

يوم استشهادها بعتتلي رسالة تحكيلي أنها بدها تدور على شقة تقعد فيها لأنه عمارتها كلها تدمرت. رديت عليها أنه "بيتي كله إلك لحد ما تلاقي شقة." بس هي ما ردت. فكرت أنه ممكن ما وصلتها رسالتي لأنها ما ردت. بس إيمان راحت هي وأولادها... هل كانت تحت الأنقاض قبل ما تموت؟ هل ماتت فوراً؟ شافت أولادها ميتين؟ ما حدا راح يقدر يعرف. راح تظلي ذكرى حلوة وأنا ما رح أنسى غناك الحلو. الناس المناح بموتوا بكير. بحبك عزيزتي، ولنا لقاء. الله يرحمك انت وعائلتك. 

السبت، ٢٥ تشرين الثاني/نوفمبر 2023

... امبارح أختي كمان نزحت على رفح. قررنا نلتقي. مع أنها مش كثير بعيدة، بس خلال العدوان طبعاً ما قدرنا نلتقي إلا للضرورة القصوى. قضينا كل اليوم مع بعض، وكنا مخططين نروح نزور أقاربنا اللي عايشين في رفح. بس ما قدرنا نروح لأنه كنا مستنزفات نفسياً، وهي كان لازم تخبز لأولادها. بالعادة كنا نجيب خبز من المخبز...

مع أننا اليوم في هدنة، ما شعرت باختلاف عن أول امبارح. لساتنا مش ببيوتنا. ما بنعرف أصلاً إذا لسا عنا بيوت. خسرنا كثير من أحبابنا. صحيح أنه ما بنحس بالزنانة فوق راسنا فبنحس شوي بأمان أكثر، بس لسا كل ما تمرق سيارة بخاف أنها تكون انفجار. كل صوت عالي بخوفني وبحس أنه رح يقتلنا...

الليلة الماضية زعلت كثير لأني عرفت أنه واحدة من أعز صديقاتي خسرت أولادها الثلاث وهي وزوجها هلأ بالمستشفى. كنا أنا وهاي الصديقة نلتقي كل يوم خميس المسا في بيت أمها. عندها أربع خوات وبعتبروني أنا الأخت السادسة في العائلة. خايفة اسأل كيف حالها هي وزوجها. مش قادرة أسمع كمان أخبار سيئة. 

الأحد، ٢٦ تشرين الثاني/نوفمبر 2023

... بدي أوضح ليش عم بشارككم بهاي المذكرات. أولاً، أصدقائي برا غزة بيسألوني أسئلة كثيرة مثل كيف عايشين؟ كيف حالك؟ شو اللي بصير؟ شو عاملين بدون كهرباء؟ أسئلة بتبين سهلة، بس جواب قصير ما بيعطيها حقها لتوضيح شو اللي بنعيشه. 

كمان بكتب لأنه بدي أحافظ على هاي الذكريات كفلسطينية اللي ما ولا عمرها كان بدها تترك أرضها في غزة وتطلع برا. لأنه الناس والتاريخ بيحكم علينا وراح يحكموا علينا بالمستقبل. 

اليوم الصبح كان من أحسن الأوقات اللي عشتها من زمان، لأني كنت قاعدة وبدردش مع دار حماي، بس كل أحاديثنا كانت عن الناس اللي ماتت، وعن الكوابيس اللي راودتنا. بالرغم من هالحكي، إلا أني انبسطت بالوقت معهم، لأني لسا بدي أحس أني عايشة وأنه بقدر أعيش حياة عادية. 


الإثنين، ٢٧ تشرين الثاني/نوفمبر 2023

اليوم راسي مدووش بأفكار متضاربة ومش عارفة كيف أتعامل معهم. حاسة أنه أفكاري مشوشة. مثلاً، نفسي أرجع على بيتي، أزبطه وأقعد فيه. هذا طبعاً، إذا لساته بيتي موجود. بس بنفس الوقت، حاسة أنه نفسي أهاجر لمكان جديد وأترك هذا المكان للأبد. مرات بفيق من النوم بمزاج منيح ومرات بمزاج معكَّر. ومضطرة أني أخلي كل هاي المشاعر جواي عشان الناس اللي عايشة معي ما تضطر تتعامل مع تقلبات مزاجي. مرات بحس أني مبسوطة كثير، وبكون بدي أقوم وأعمل أشياء كثيرة، ومرات بكون مكتئبة ومش قادرة أعمل إشي. إذا بشوفوني هيك، رح نتخانق وأنا بديش هالاشي يصير.

مرات بكون بدي أظل هون وأكرِّس وقتي لأساعد الأطفال، بس مرات بحس أنه ما في جدوى وبفكر أنه لازم أبني حياة برا غزة، وأنا متأكدة أنه رح ألاقي خيارات منيحة. بتأمل أنه يكون في فترة هدوء طويلة عشان أعرف أفكر شو اللي بدي أعمله. كل اللي بعرفه هلأ أنه بدي أرجع على بيتي، وهذا أهم شيء بالنسبة إلى في هاي اللحظة.

الوضع هون مع الأولاد فوضى. طول الوقت بصرخوا وبنادوا. يا ريت بقدر أسكِّر الباب وآخذ لحظة لحالي. بس الأولاد عندهم أجساد صغيرة مع أرواح كبيرة ولازم يكونوا حركين ويلعبوا مع أولاد آخرين. هذا طبعاً مش متوفر لإلهم. هم علقانين بمكان ضيق طول اليوم وكل يوم. في المبنى اللي إحنا فيه، على الأقل في مكان صغير يلعبوا فيه. بس حتى هذا مش دايماً متاح، لأنه في اللحظة اللي يبلش فيها القصف لازم يرجعوا جوا...

 

الساحة بجانب المبنى اللي قاعدين فيه

من بداية الهدنة كان عنا غاز وبنزين للسيارة والطبخ. العائلة اللي مستضيفتنا ظلوا واقفين في طوابير طويلة ليومين عشان يجيبوا غاز للبيت. مش معقول. وعم بحاولوا يلاقوا طرق بديلة لأنه كثير متعب. مرات واحد بروح بوقف بالطابور خلال النهار، وحدا ثاني بروح بياخذ مكانه دوام (شفت) الليل. أو أنه حدا بيعرفهم بساعدهم، بس هم كمان بصير لازم يساعدوا غيرهم يدبروا غاز.

كنت متأملة أنه أعبي سيارتي بنزين عشان أكون جاهزة في حال قدرنا نرجع على مدينة غزة. مثل ما خبرتك، سيارتي انقصفت في أول الحرب، بس لسا بقدر أسوقها. وبرضه محتاجة بنزين إذا اضطريت أنزح لمصر. احنا عنجد مش حابين نروح، بس إذا انجبرنا ننزح، لازم نكون جاهزين. الناس عم تقضي كل يومها في الهدنة واقفة بطوابير البنزين والغاز بدل ما يعملوا إشي مفيد لإلهم أو للي حواليهم. وهلأ عرفت أنه الهدنة تمددت كمان يومين، بس لسا بنقدرش نرجع ع بيتنا.

  

الأربعاء، ٢٩ تشرين الثاني/نوفمبر 2023

امبارح وصلني خبر أنه صديقتي وزوجها استشهدوا. هي طبيبة وزوجها بشتغل بالاستشارات ومعروف في غزة. تعرفت عليها لأنها أم واحد من الشباب الصغار اللي كنت أشتغل معهم زمان وكان يدرس بكلية البيطرة في غزة. وكمان، أخيراً وصلني أخبار عن بيتي. بما أنه في هدنة، في حدا قدر يروح ويشوف شو صار بالبيت.

احنا كنا عايشين في الطابق الثالث. الطابق الثاني والطابق السادس من عمارتنا انقصفوا. بما أني عايشة بالعمارة، فبعرف أنه في الطابق الثاني كانت عايشة عيلة بعرفها من زمان كثير، وبقدر أقول بكل تأكيد أنه ما إلهم أي علاقة بحماس. أصلاً، هم عيلة مسيحية ومسالمة وهادية. كلهم مدنيين. فوق هيك، الطابق السادس اللي انقصف، أنا متأكدة أنه فاضي وما في حدا عايش فيه. الشخص اللي كان عايش هناك، كمان ما إله علاقة بحماس. بس بكل الأحوال هو مات زمان. كان أخو ياسر عرفات، فتحي عرفات. وكل ورثته مش عايشين في غزة. عايشين في رام الله. فالشقة فاضية ومسكرة. بقدر أقول هالحكي بكل ثقة، لأني أنا عايشة بالعمارة، ولأنه في حارس. أنا بشوف مين بدخل وبطلع من العمارة، وما في حدا بروح على هذاك الطابق.

عمارتنا تدمرت جزئياً في حرب ٢٠٢٠، وهلأ تضررت كمان مرة من قنبلتين. قبل هيك، لما كانت متضررة، كانت تُصنَّف أنها غير صالحة للسكن. أخذنا وقتها ٣ سنوات عشان نعرف نرجع نعيش فيها... لأنه في عيلة استضافتنا في رفح، بتمنى أني أنا أستضيف عائلتين في بيتي بس نرجع. بدي أرد جميل ولطف العائلة اللي استضافتنا من خلال استضافة عائلات تانية محتاجة بيت.

كمان قدرت أتأكد أنه صديقتي اللي خسرت ٣ من أولادها لساتها عايشة هي وزوجها. مش عارفة كيف راح تقدر تعيش بعد ما خسرت ولادها الثلاثة مرة واحدة. خصوصاً بعد ما انتظرتهم سبع سنين ليوصلوا.. كيف راح يقدروا كل هدول الناس اللي خسروا عيلة وأقارب أنه يكملوا بحياتهم؟

ومع ذلك، الحياة لازم تستمر. واحدة من الشغلات اللي انتبهت لها أنه بعد أسبوع الهدنة هاد، الكل بس بده يكمل حياته بسلام. الكل حوالي بقول أنه نسينا القصف تماماً، وكأن شيئاً لم يكن... ما بدي أرجع أسمع أصوات القصف والغارات كمان مرة بحياتي. خلينا نشوف إذا رح نسمع أخبار عن تمديد الهدنة.

 

السبت، ٢ كانون الأول/ديسمبر 2023

اليوم الصبح صحيت على صوت القصف الساعة ٦:٥٥. كنا عارفين من الليلة الماضية أنه هيك رح يصير، لأنه الطيران الإسرائيلي ما وقفش فوق رفح. وخلال النهار كان في كمان انفجار كبير في البلد. وكان في كمان غارة قريبة من المكان اللي احنا قاعدين اليوم فيه مع آخرين. عم نسمع صوت القصف طول الوقت. كثير غريب أنه صرنا نحس هاي الأصوات وكأنها أصوات مكررة، [كأننا سامعينها من قبل]. بس مفعول هالأصوات مش مكرر، [دايماً جديد،] مفعولها كبير.

 

الأحد، ٣ كانون الأول/ديسمبر 2023

الليلة الماضية كانت صعبة كثير لأنه الدرون ما وقف فوق روسنا. ولا عرفت أنام، وصحيت راسي بوجعني. امبارح صحيت على خبر أنه ما راح يدخلوا أي مساعدات إنسانية لغزة. بعدين صاروا يقولوا أنه المساعدات راح تقل مقارنة بما كانت عليه أيام الهدنة. راح يكون هذا أثره كبير على الناس هون.

مصطلح مساعدات إنسانية بيلعب على عصبي... لما نقول مساعدات إنسانية ببين وكأنه احنا ناس محتاجة...

أخذت صورة لأولاد عم وإخوة البيبي [الطفل] الجديد اللي معنا بالبيت. كلهم قاعدين بيتفرجوا على البيبي النايم. أخذت هالصورة لأنه ولادة طفل بتعني حياة جديدة وبتعطي أمل أنه رح يكون إلنا مستقبل. وكمان لما نشوف طفل صغير، بصير الواحد يفكر أنه "كيف راح يعيش؟ راح يعيش لفترة طويلة؟ شو البيئة اللي راح يعيش ويكبر فيها؟" كل هاي الأفكار بتتراود للشخص لما بيتفرج على طفل. اسمه محمود وعم بنادوا عليه محمود القدس لأنه ولد في القدس لما أمه كانت رايحة تتعالج.

 

الثلاثاء، ٢١ كانون الأول/ديسمبر

... شعور مأساوي خلال اليومين الماضيين واحنا نحاول نلاقي خالتي وعمتي. لسا مش قادرين نلاقيهم. ما بنعرف وينهم، وما بنعرف شو بيعملوا. ولا اشي بيخلي القلب يدمّع مثل شوفة الأطفال بيبكوا بدهم حليب أو أكل، وأنا عارفة أنه ما راح نقدر نوفر لهم لأنه الناس ما معها مصاري، والأكل مش متوفر بالسوق أساساً.

 

امبارح سمعت أخبار مرعبة عن أقاربنا. يمكن هاي أول قصة عنجد مرعبة راح أرويلكم إياها في هالمذكرات. واحد من أقربائنا البعاد شوي (نسيب ابن عمي)، كان مع عائلته في البيت لما الجنود الإسرائيليين دخلوا المبنى. فصلوا النساء لجهة والرجال لجهة، وأخذوا الرجال للشارع. الجنود كانوا بيغنوا بصوت عالي وبيرقصوا وسألوا قرايبنا وكل الرجال أنه يشلحوا كل ملابسهم. وأجبروا كل النساء والأطفال بالبيت أنه يتفرجوا عليهم. وبعدين طخوا وقتلوا الرجال على الأرض. ماتوا مشلحين في البرد. وبعدين طخوا كم امرأة وطفل. كان في طفل رضيع. وظلوا ينادوا ويطلبوا المساعدة من الكل. ما بنعرف شو صار فيهم هلأ. مش عارفين نوصل لهم. عرفت عن الموضوع بالأول من الأخبار، بس ما ربطت أنه هذول قرايبنا. وبعدين قريبنا في مصر شارك الخبر معنا على جروب واتساب.

القصص اللي عم نسمعها بشكل يومي مرعبة. سمعنا عن حدا اللي أجبروه يدخل على بيت مدمّر عشان يفحص إذا في حدا لسا عايش جوا ولا لأ. لما طلع من البيت كان لونه أصفر من الصدمة. وصف كيف أنه شاف امرأة واقفة في نص الركام، عينيها مبحلقات بتتفرج عليه وماسكة سكينة. طبعاً، ما حدا صدقه، وصاروا بدهم يشوفوا بعينيهم. لما دخلوا، لاقوا أنه عنجد في امرأة انقتلت وهي ماسكة سكينة. ايدها اللي فيها سكينة كانت بزاوية قائمة. وفي ايدها الثانية كان في حبة بطاطا. يعني هي كانت راح تبلش تطبخ أكل. ماتت وظلت واقفة بعد الانفجار، لأنه جسمها كان راكي على حجر.

كثير مرعب أنه نسمع قصص الناس اللي في غزة، بما فيهم قرايبي اللي صارلهم أيام بدون أكل. ما بنعرف شو عم بصير معهم. اللي بنعرفه على الأكيد أنه لما واحدة من العائلات تفقد الأمل تلاقي اشي تشربه أو تاكله، بياخذوا توالي المي في قاع الغسالة، اللي هي بالعادة مقرفة ومش صحية وعلى الأغلب صارلها أيام وأشهر، وشربوا هاي المي. هاي كانت الطريقة الوحيدة ليظلوا على قيد الحياة. 

ربى، ولدت في مدينة غزة، عاشت فيها معظم حياتها. لأكثر من عشرين عاماً، عملت ربى مع منظمات إنسانية دولية تُعنى بحقوق الطفل وقضايا النوع الاجتماعي في غزة ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. عملت في غزة مع المجتمعات المحلية لتدعيم نظم الحماية الاجتماعية للأطفال وعائلاتهم. تولي ربى أيضاً اهتماماً خاصاً لرعاية الحيوانات ورفاهيتها، وتنشط في مبادرات رعاية الحيوانات في غزة.