أصواتٌ من غزّة

علي جادالله، مصور صحفي

علي جادالله ٢٠٢٠. سوق الزاوية، غزة

أمضى علي حياته المهنية برفقة كاميرته في توثيق أحداث غزة، ومن ضمنها أحداث التدمير والفقدان التي شهدتها خلال العقود الماضية. وقد سعدنا في إنسانيات بالعمل معه لفترة وجيزة ضمن مشروع حكايا السوق خلال سنة ٢٠٢١ التي باتت تبدو اليوم بعيدة جداً. ساهم علي بتصوير لقطات فوتوغرافية مذهلة لأسواق غزة الصاخبة حينها، والتي على الرغم من تقلص حدود نشاطها إثر عقود من الحصار الإسرائيلي، إلا أنها تعج بالحياة في تفاصيلها. كان علي دائماً يرفع معنويات فريق تصوير مشروع حكايا السوق بنكاته التي كانت تعدل مزاجنا حين كنا نلتقي من سبع مدن في فلسطين أونلاين (عبر الانترنت). ومع أنه غاب عن بعض الاجتماعات لأنه كان يفضل البقاء في مواقع التصوير، ولكنه كان دائماً سريعاً في إرسال الصور والرد على رسائل الفريق. وحين تمكننا بعد الكثير من الجهد من إيصال دفعة متواضعة إلى غزة لقاء عمله مع الفريق مع رسالة تقول: "شكراً على جهودك التي جعلت المستحيل ممكناً"، أجابنا بلطف: "هذه أفضل رسالة تلقيتها على الإطلاق، سوف نجعل المستحيل ممكناً معاً" .٠

في تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٢٣، دفعت الأحداث علي إلى قلب الصورة التي كان ينقلها لنا لفترة طويلة من حياته.٠

عندما عادت إسرائيل مجدداً لقصف غزة خلال أكتوبر، أصبح التواصل مع علي صعباً. لكن علي واصل بشجاعة توثيق أعمال العنف المروعة التي طالت كل شخص وكل شيء في غزة، واستمر بنشر الصور للمؤسسات الإخبارية. وبهذه الظروف القاسية تمكن علي من مشاركة قصة رحلته المؤلمة وسط الرعب والفقدان والتدمير الذي لا ينتهي من خلال نشرها عبر الانستغرام، وتمكننا من مشاركة أجزاء منها هنا، مع التنويه إلى أن جميع الاقتباسات المنسوبة إلى علي مأخوذة من صفحته على الإنستغرام، ما لم نذكر خلاف ذلك، وقد اخترنا ارفاق بعض الصور من صفحته فقط.


الثلاثاء ١٠ تشرين الأول/ أكتوبر

٠"على مدار السنين، كنت أوثق آلام شعبي حين كانت بيوتهم تتعرض للقصف والتدمير، ليصبحوا بلا مأوى. وفي نهاية المطاف، وجدت نفسي مضطراً لتوثيق حكايتي أنا: قصة مأساتي وحزني، لأنني أنا أيضاً فلسطيني. قصفت الطائرات الإسرائيلية بيتي فدمرته ودمرت معه ذكرياتي وآمالي وآلامي. ولكن تكفيني عناية الله التي أنقذت حياتي وحياة [زوجتي وأطفالي] من التدمير، هذا يكفيني. كلنا بخير، الحمد لله".٠

علي يحمل بدلة سبايدر مان (تعود لابنه). علي جادالله، من صفحته على الانستغرام ١٠ تشرين الأول/ أكتوبر.٠


بعد يومين، قصفت إسرائيل منزل والَدي علي ودمرته، بينما كانت العائلة داخل المنزل.0

 

الجمعة ١٣ تشرين الأول/ أكتوبر

 ٠"وصلنا إلى مرحلة كارثية..."، هذا ما كتبه علي تحت إحدى الصور.٠

علي يقود سيارته وقد وضع جثمان والده، الذي تم انتشاله من تحت الردم، في المقعد الخلفي، أخذ الجثمان وحيداً بسيارته ليدفنه. لا توجد سيارات إسعاف، ولا يوجد أفراد آخرين من العائلة للمشاركة بالدفن. رحمة الله عليه.٠

 

السبت ١٤ تشرين الأول/ أكتوبر

نشر علي صورة له وهو يقبل يد أخيه القتيل التي ظهرت من تحت الأنقاض.٠

إلى جانب والده، فقد علي ثلاثة أشقاء، صلاح، وخالد وصالح، واحدى شقيقاته، دعاء.٠

لم يتمكنوا من العثور على جثة دعاء. "كانت في المطبخ حين سقط الصاروخ هناك." البيت عبارة عن مبنى مكون من طابق واحد وليس لديهم جيران. عثر علي على بقايا الصاروخ الذي سقط على بيت أهله مكتوب عليه: "يضرب بمستوى دقة تصل إلى ٥ أمتار من الهدف".٠

٠"ربما أصابها الصاروخ إصابة مباشرة. بعد انتهاء الحرب، إذا بقيتُ على قيد الحياة، سأبحث أكثر عن دعاء".٠

 

الثلاثاء ٢٤ تشرين الأول/ أكتوبر

. "هذه أمي. إنها الوحيدة التي نجت من القصف الإسرائيلي لمنزل عائلتي"

 

الخميس ٢٦ تشرين الأول/ أكتوبر

٠"هذه هي بدلة حسن (ابني) السبايدر مان

لا يعرف حسن أن بيته وبيت جده قد سُوّيا بالأرض.٠

ولا يعلم أن جده، وعمته، وأعمامه قد قتلوا.٠

على الأقل نجت بدلته السبايدر مان"٠

البدلة خرجت سليمة من التفجيرين

 

الجمعة ٢٧ تشرين الأول/ أكتوبر

لقد اعتدت أن أكون الشخص الواقف خلف الكاميرا. ولكني يوم الحادي عشر من تشرين الأول/ أكتوبر، وبينما كنت ألتقط صورة لمنزل تعرض للقصف، وكان المنزل المدمر يقع بالقرب من الشارع الذي تعيش فيه عائلتي: والداي مع إخواني وأختي، سمعت صوت انفجار وأدركت أن منزل عائلتي قد تعرض للقصف. ركضت باتجاه المنزل فرأيته وقد تحول إلى ركام.٠

وكأن العالم كله قد مات فجأة. لم تعد هناك أية مشاعر، ولا أية ألوان، لم يكن هناك شيء. حاولت أن أنادي على اخواني، ولكني أدركت أنهم تحت الأنقاض. ثم سمعت صوت أمي – وشعرت أنه لا يزال هناك بصيص أمل في هذا العالم. تمكنت من إخراج أمي من تحت الردم. وكانت الوحيدة التي نجت. لم نعثر على جثة أختي اطلاقاً.٠

تركت زوجتي وأطفالي في الجنوب من مدينة غزة، وانتقلت إلى مستشفى الشفاء لأظل بالقرب من أمي المصابة. لقد تحولتُ إلى جسد بلا روح. بالكاد أستطيع الحديث مع أطفالي – مجرد مكالمة هاتفية قصيرة جداً كل يوم. العمل هو كل ما أقوم به، أعمل كجزء من فريق مكون من ستة مصورين، جميعهم يعملون ويقيمون في المشفى...٠

إن الشيء الأهم الآن هو نشر صور الأحداث وأخبارها. أنا وفريقي لا نأكل تقريباً، ولا ننام أكثر من بضع ساعات في الليل. نستمد طاقتنا من حبات التمر التي نأكلها، لأنها تحتوي على الكثير من السكر. أشعر بالخدر، وكأنني مجرد آلة." (نقلاً عن الإيكونوميست)

علي جادالله، ١٧ تشرين الثاني/ نوفمبر، بعد تدمير الطائرات الإسرائيلية لستة منازل في مخيم الشاطئ للاجئين.٠

لا يزال علي يعمل باستمرار ويلتقط صور التدمير الإسرائيلي بشكل يومي، وقد طلب منا نشر الصور التالية.٠

من صفحة علي جادالله على الانستغرام، ٢٣ تشرين الأول/ أكتوبر، حي الشيخ رضوان في مدينة غزة.٠

على الرغم من أن المشاهدة المستمرة لصور الموت والمعاناة قد تفقدنا جزء من حساسيتنا وآدميتنا، إلا أننا مصرون على متابعة ما يحصل في غزة من خلال عيون علي.٠

الصورة من صفحة علي على الإنستغرام، ٦ تشرين الثاني/ نوفمبر.٠


الجمعة، ٣ تشرين الثاني/ نوفمبر

توجه علي لزيارة والدته المصابة حيث ترقد في المشفى برفقة شقيقته الناجية من الموت. كان يُخرج الطعام الذي أحضره لوالدته المريضة من سيارته، حين اقتربت سيارة إسعاف من المشفى، فسقط صاروخ إسرائيلي أمام سيارة الإسعاف مباشرة. التقط علي صوراً وفيديوهات للاعتداء، قُتل عدد من الأشخاص، بينما أصيبت شقيقته بشظايا متطايرة.٠.

 

السبت ١١ تشرين الثاني/ نوفمبر

كتب علي إلى أحد أعضاء فريق حكايا السوق الرسالة التالية:٠

٠"أنا بخير

ليس لدي انترنت

أو امكانية لاجراء مكالمات".٠

لا يستطيع علي البقاء مع زوجته وولديه، كما قال لنا: "سيشكل هذا خطراً عليهم". الصحفيون مستهدفون. وهو يعرف أن عدد الصحفيين الذين قتلوا يتجاوز الخمسين، وكان بعضهم أصدقاءه المقربين.٠

 

الأربعاء ١٥ تشرين الثاني/ نوفمبر

 ٠"انا علي جادالله، مصور صحفي فلسطيني مقيم في قطاع غزة.٠

وثقت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لمدة ٣٩ يوماُ، وواجهت تحديات هائلة.٠

فقدت منزلين، وخمسة من أفراد عائلتي وأصدقاء وزملاء.٠

ومع أنني معتاد على الوقوف خلف الكاميرا لالتقاط الصور، إلا أنني أصبحت اليوم القصة في الصورة.٠

أصبحت بعد فقدان والدي وإخوتي حزيناً ومشرداً، مع زوجتي، وأطفالي وأمي وأختي.٠

كنت في العادة حريصاً على خصوصية حياتي الشخصية، لكني بت أعتقد أن العالم يجب أن يفهم المصاعب القاسية التي علينا أن نتحملها.٠

كل صورة أقوم بالتقاطها تحكي قصة.٠

شاركوها ليعرف العالم ما يحصل في غزة.٠

من غزة مع محبتي، ٠

أ. ج." ٠

 

الأحد ١٩ تشرين الثاني/ نوفمبر

قُتل عم علي، بلال جادالله، مؤسس بيت الصحافة-فلسطين، في استهداف من غارة جوية إسرائيلية أثناء سفره بسيارته إلى الجنوب. ساهم بلال بالتعاون مع آخرين في توثيق  "استهداف آلة القتل العسكرية الإسرائيلية للصحفيين على مدى ٢٢ عاماً"، إلا أن الجهود التي بذلها لحماية الصحفيين الفلسطينيين لم تنقذ حياته.0

ملاحظة ختامية

خلال اعدادنا لنشر هذه المادة، أدرك فريق حكايا السوق بأننا ذكرنا ثلاثة فقط من أشقاء علي الأربعة الذين قتلتهم إسرائيل، ما أثقل مثل هذه الأخطاء.٠

يرعبنا التفكير في الحاجة لإضافة تحديثات.٠

علي جادالله، مصور صحفي يعيش في غزة مع زوجته وطفليه. أمضى علي حياته المهنية برفقة كاميرته التي يستخدمها لتوثيق أحداث غزة، ويعمل مع عدد من المؤسسات الإخبارية. عمل لفترة وجيزة ضمن مشروع حكايا السوق مع إنسانيات عام ٢٠٢١. حصلت صور علي على العديد من الجوائز.٠